الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وثانيها: إني كنت قد ربيتك فلو منعتك الآن مطلوبك لكان ذلك ردًا بعد القبول وإساءة بعد الإحسان فكيف يليق بكرمي.وثالثها: إنا لما أعطيناك في الأزمنة السالفة كل ما احتجت إليه ورقيناك من حالة نازلة إلى درجة عالية دل هذا على أنا نصبناك لمنصب عال ومهم عظيم فكيف يليق بمثل هذه الرتبة المنع من المطلوب، وهاهنا سؤالان:السؤال الأول: لم ذكر تلك النعم بلفظ المنة مع أن هذه اللفظة لفظة مؤذية والمقام مقام التلطف؟ والجواب إنما ذكر ذلك ليعرف موسى عليه السلام أن هذه النعم التي وصلت إليه ما كان مستحقًا لشيء منها بل إنما خصه الله تعالى بها بمحض التفضل والإحسان.السؤال الثاني: لم قال مرة أخرى مع أنه تعالى ذكر مننًا كثيرة؟ والجواب: لم يعن بمرة أخرى مرة واحدة من المنن لأن ذلك قد يقال في القليل والكثير.واعلم أن المنن المذكورة هاهنا ثمانية: المنة الأولى: قوله: {إِذْ أَوْحَيْنَا إلى أُمّكَ مَا يوحى أَنِ اقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم فَلْيُلْقِهِ اليم بالساحل يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لّي وَعَدُوٌّ لَّهُ} أما قوله: {إِذْ أَوْحَيْنَا} فقد اتفق الأكثرون على أن أم موسى عليه السلام ما كانت من الأنبياء والرسل فلا يجوز أن يكون المراد من هذا الوحي هو الوحي الواصل إلى الأنبياء وكيف لا نقول ذلك والمرأة لا تصلح للقضاء والإمامة بل عند الشافعي رحمه الله لا تمكن من تزويجها نفسها فكيف تصلح للنبوة ويدل عليه قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِمْ} [الأنبياء: 7] وهذا صريح في الباب، وأيضًا فالوحي قد جاء في القرآن لا بمعنى النبوة قال تعالى: {وأوحى رَبُّكَ إلى النحل} [النحل: 68] وقال: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الحواريين} [المائدة: 111] ثم اختلفوا في المراد بهذا الوحي على وجوه: أحدها: المراد رؤيا رأتها أم موسى عليه السلام وكان تأويلها وضع موسى عليه السلام في التابوت وقذفه في البحر وأن الله تعالى يرده إليها.وثانيها: أن المراد عزيمة جازمة وقعت في قلبها دفعة واحدة فكل من تفكر فيما وقع إليه ظهر له الرأي الذي هو أقرب إلى الخلاص ويقال لذلك الخاطر إنه وحي.وثالثها: المراد منه الإلهام لكنا متى بحثنا عن الإلهام كان معناه خطور رأي بالبال وغلبة على القلب فيصير هذا هوالوجه الثاني وهذه الوجوه الثلاثة يعترض عليها بأن الإلقاء في البحر قريب من الإهلاك وهو مساوٍ للخوف الحاصل من القتل المعتاد من فرعون فكيف يجوز الإقدام على أحدهما لأجل الصيانة عن الثاني.والجواب: لعلها عرفت بالاستقراء صدق رؤياها فكان إفضاء الإلقاء في البحر إلى السلامة أغلب على ظنها من وقوع الولد في يد فرعون.ورابعها: لعله أوحى إلى بعض الأنبياء في ذلك الزمان كشعيب عليه السلام أو غيره ثم إن ذلك النبي عرفها، إما مشافهة أو مراسلة، واعترض عليه بأن الأمر لو كان كذلك لما لحقها من أنواع الخوف ما لحقها.والجواب: أن ذلك الخوف كان من لوازم البشرية كما أن موسى عليه السلام كان يخاف فرعون مع أن الله تعالى كان يأمره بالذهاب إليه مرارًا.وخامسها: لعل الأنبياء المتقدمين كإبراهيم وإسحق ويعقوب عليهم السلام أخبروا بذلك وانتهى ذلك الخبر إلى تلك المرأة.وسادسها: لعل الله تعالى بعث إليها ملكًا لا على وجه النبوة كما بعث إلى مريم في قوله: {فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} [مريم: 17] وأما قوله: {مَا يوحى} فمعناه وأوحينا إلى أمك ما يجب أن يوحى وإنما وجب ذلك الوحي لأن الواقعة واقعة عظيمة ولا سبيل إلى معرفة المصلحة فيها إلا بالوحي فكان الوحي واجبًا أما قوله تعالى: {أَنِ اقذفيه} ففيه مسائل:المسألة الأولى:أن هي المفسرة لأن الوحي بمعنى القول.المسألة الثانية:القذف مستعمل في معنى الإلقاء والوضع ومنه قوله تعالى: {وَقَذَفَ في قُلُوبِهِمُ الرعب} [الأحزاب: 26].المسألة الثالثة:روى أنها اتخذت تابوتًا وجعلت فيه قطنًا محلوجًا ووضعت فيه موسى عليه السلام وقيرت رأسه وشقوقه بالقار ثم ألقته في النيل وكان يشرع منه نهر كبير في دار فرعون فبينا هو جالس على رأس البركة مع امرأته آسية إذ بتابوت يجيء به الماء فلما رآه فرعون أمر الغلمان والجواري بإخراجه فأخرجوه وفتحوا رأسه فإذا صبي من أصبح الناس وجهًا فلما رآه فرعون أحبه وسيأتي تمام القصة في سورة القصص، قال مقاتل: إن الذي صنع التابوت حزقيل مؤمن آل فرعون.المسألة الرابعة:اليم هو البحر والمراد به هاهنا نيل مصر في قول الجميع واليم اسم يقع على البحر وعلى النهر العظيم.المسألة الخامسة:قال الكسائي الساحل فاعل بمعنى مفعول سمي بذلك لأن الماء يسحله أي يقذفه إلى أعلاه.المسألة السادسة:قال صاحب الكشاف الضمائر كلها راجعة إلى موسى عليه السلام ورجوع بعضها إليه وبعضها إلى التابوت يؤدي إلى تنافر النظم فإن قيل المقذوف في البحر هو التابوت وكذلك الملقى إلى الساحل قلنا لا بأس بأن يقال المقذوف والملقى هو موسى عليه السلام في جوف التابوت حتى لا تتفرق الضمائر ولا يحصل التنافر.المسألة السابعة:لما كان تقدير الله تعالى أن يجري ماء اليم ويلقي بذلك التابوت إلى الساحل سلك في ذلك سبيل المجاز وجعل اليم كأنه ذو تمييز أمر بذلك ليطيع الأمر ويمتثل رسمه فقيل فليلقه اليم بالساحل أما قوله: {يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لّي وَعَدُوٌّ لَّهُ} ففيه أبحاث:البحث الأول: قوله: {يَأْخُذْهُ} جواب الأمر أي اقذفيه يأخذه.البحث الثاني: في كيفية الأخذ قولان: أحدهما: أن امرأة فرعون كانت بحيث تستسقي الجواري فبصرت بالتابوت فأمرت به فأخذت التابوت فيكون المراد من أخذ فرعون التابوت قبوله له واستحبابه إياه.الثاني: أن البحر ألقى التابوت بموضع من الساحل فيه فوهة نهر فرعون ثم أداه النهر إلى بركة فرعون فلما رآه أخذه.البحث الثالث: قوله: {يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لّى وَعَدُوٌّ لَّهُ} فيه إشكال وهو أن موسى عليه السلام لم يكن ذلك الوقت بحيث يعادى.وجوابه: أما كونه عدوًا لله من جهة كفره وعتوه فظاهر وأما كونه عدوًا لموسى عليه السلام فيحتمل من حيث إنه لو ظهر له حالة لقتله ويحتمل أنه من حيث يؤول أمره إلى ما آل إليه من العداوة.المنة الثانية: قوله: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي} وفيه قولان: الأول: وألقيت عليك محبة هي مني قال الزمخشري: {مِنّي} لا يخلو إما أن يتعلق بألقيت فيكون المعنى على أني أحببتك ومن أحبه الله أحبته القلوب، وإما أن يتعلق بمحذوف وهذا هو القول الثاني ويكون ذلك المحذوف صفة لمحبة أي وألقيت عليك محبة حاصلة مني واقعة بخلقي فلذلك أحبتك امرأة فرعون حتى قالت: {قُرَّةُ عَيْنٍ لّى وَلَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ} [القصص: 9] يروى أنه كانت على وجهه مسحة جمال وفي عينيه ملاحة لا يكاد يصبر عنه من رآه وهو كقوله تعالى: {سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرحمن وُدًّا} [مريم: 96] قال القاضي: هذا الوجه أقرب لأنه في حال صغره لا يكاد يوصف بمحبة الله تعالى التي ظاهرها من جهة الدين لأن ذلك إنما يستعمل في المكلف من حيث استحقاق الثواب والمراد أن ما ذكرنا من كيفيته في الخلقة يستحلي ويغتبط فكذلك كانت حاله مع فرعون وامرأته وسهل الله تعالى له منهما في التربية ما لا مزيد عليه ويمكن أن يقال بل الاحتمال الأول أرجح لأن الاحتمال الثاني يحوج إلى الإضمار وهو أن يقال: وألقيت عليك محبة حاصلة مني وواقعة بتخليقي وعلى التقدير الأول لا حاجة إلى هذا الإضمار بقي قوله: إنه حال صباه لا يحصل له محبة الله تعالى قلنا: لا نسلم فإن محبة الله تعالى يرجع معناها إلى إيصال النفع إلى عباده وهذا المعنى كان حاصلًا في حقه في حال صباه وعلم الله تعالى أن ذلك يستمر إلى آخر عمره فلا جرم أطلق عليه لفظ المحبة.المنة الثالثة: قوله: {وَلِتُصْنَعَ على عَيْنِي}.قال القفال: لترى على عيني أي على وفق إرادتي، ومجاز هذا أن من صنع لإنسان شيئًا وهو حاضر ينظر إليه صنعه له كما يحب ولا يمكنه أن يفعل ما يخالف غرضه فكذا هاهنا وفي كيفية المجاز قولان: الأول: المراد من العين العلم أن ترى على علم مني ولما كان العالم بالشيء يحرسه عن الآفات كما أن الناظر إليه يحرسه عن الآفات أطلق لفظ العين على العلم لاشتباههما من هذا الوجه.الثاني: المراد من العين الحراسة وذلك لأن الناظر إلى الشيء يحرسه عما يؤذيه فالعين كأنها سبب الحراسة فأطلق اسم السبب على المسبب مجازًا وهو كقوله تعالى: {إِنَّنِى مَعَكُمَا أَسْمَعُ وأرى} [طه: 46] ويقال: عين الله عليك إذا دعا لك بالحفظ والحياطة، قال القاضي ظاهر القرآن يدل على أن المراد من قوله: {وَلِتُصْنَعَ على عَيْنِي} الحفظ والحياطة كقوله تعالى: {إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ على مَن يَكْفُلُهُ فرجعناك إلى أُمّكَ كَى تَقَرَّ عَيْنُها وَلاَ تَحْزَنَ} فصار ذلك كالتفسير لحياطة الله تعالى له، بقي هاهنا بحثان:الأول: الواو في قوله: {وَلِتُصْنَعَ على عَيْنِي} فيه ثلاثة أوجه:أحدها: كأنه قيل: {وَلِتُصْنَعَ على عَيْنِي} ألقيت عليك محبة مني ثم يكون قوله: {إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ} متعلقًا بأول الكلام وهو قوله: {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أخرى إِذْ أَوْحَيْنَا إلى أُمّكَ مَا يوحى} و{إذ تمشي أختك}.وثانيها: يجوز أن يكون قوله: {وَلِتُصْنَعَ على عَيْنِي} متعلقًا بما بعده وهو قوله: {إِذْ تَمْشِي} وذكرنا مثل هذين الوجهين في قوله: {وَلِيَكُونَ مِنَ الموقنين} [الأنعام: 75].وثالثها: يجوز أن تكون الواو مقحمة أي وألقيت عليك محبة مني لتصنع وهذا ضعيف.الثاني: قرئ ولتصنع بكسر اللام وسكونها والجزم على أنه أمر وقرئ ولتصنع بفتح التاء والنصب أي وليكون عملك وتصرفك على علم مني. اهـ.
|